حضور المرأة السورية وقضاياها- بين الانتقائية والتطلعات المستقبلية

المؤلف: كندة حواصلي09.03.2025
حضور المرأة السورية وقضاياها- بين الانتقائية والتطلعات المستقبلية

منذ اللحظات الأولى لبزوغ فجر الدولة السورية الحديثة، وفي قلب المعمعة الهائلة من التحديات الماثلة أمامها، كان ملف المرأة وقضاياها يشغل حيزًا هامًا وبارزًا.

لقد تصاعدت التساؤلات المحورية التي يتردد صداها في أذهان الكثيرين حول كيفية تعاطي الحكومة الوليدة مع معضلات المرأة؛ بدءًا من قضية الأسيرات والمعتقلات، ووصولًا إلى الأدوار السياسية الجوهرية التي ستضطلع بها.

ولم يقتصر هذا الاهتمام المتزايد بالمرأة على النطاق المحلي فحسب، بل إن المجتمع الدولي والإقليمي برمته، بكل تشعبات عمله السياسية والإنسانية، ما زال يطرح في كل محفل ومنتدى تساؤلات عميقة حول واقع المرأة السورية، ومدى الحريات والحقوق الممنوحة لها، كمرآة عاكسة للتطلعات المستقبلية للدولة السورية.

الحضور المشروط، والغياب المبرّر

من الملاحظات الجديرة بالذكر خلال الأشهر الخمسة الفائتة، الحضور الطاغي للمرأة في الساحة العامة على الصعيدين الاجتماعي والإنساني بشكل جلي وواضح، في المقابل نجد حضورها باهتًا ومتواضعًا على الصعيدين الرسمي والسياسي. لقد تجلت مشاركة المرأة بوضوح في الفرق التطوعية، المسيرات، الاحتفالات، الاعتصامات، الزيارات، المحاضرات والندوات، بمختلف أطيافهن تقريبًا، وبمبادرات فردية نابعة من الذات.

لقد أحدث هذا الحضور زخمًا ودوّيًا، فالمشهد الراهن يتقبل الجميع، ويفتح آفاقًا للتنافس الشريف، التعاون البناء والتدافع الإيجابي، ومع ذلك، لا تزال هناك فئة من السوريين أسيرة لتصوراتها الضيقة، ولم تنفتح على فكرة سوريا الجامعة المتنوعة، حيث يرفض البعض وجود نساء منتقبات في المشهد، في حين يستنكر آخرون ظهور نساء بزي مختلف أو بتوجهات ليبرالية. وقد بدأ تسليط الأضواء الكاشفة على كافة الشخصيات النسائية، وترقب أخطائها بقدر كبير من الترقب والتمحص.

لقد كشف المشهد السوري في أعقاب التحرير عن وجود محاولات إقصائية تمارسها بعض النساء ضد أخريات، كما يمارسها بعض الرجال ضد النساء، وينطلق الطرفان من منطلق الإيمان بأحقية وجود تيار واحد فقط في الصورة وفي المقدمة، وإنكار وجود الآخرين المختلفين، خاصة عند التقدم لشغل مراكز صنع القرار.

كما كانت ردود الأفعال قاسية وعنيفة، تحمل في طياتها خلفيات نفسية وأيديولوجية عميقة، بدءًا من ردة الفعل الشديدة التي قوبلت بها عائشة الدبس، مديرة مكتب المرأة، وصولًا إلى انتقاد وجود شاعرة منتقبة في لقاء مع الرئيس، وحتى اختيار وزيرة مسيحية في الحكومة الجديدة.

وتبين أن حضور المرأة في الفضاء العام كان مشروطًا بقوالب نمطية يضعها الجميع تجاه الجميع، وكانت هناك اشتراطات إضافية يفرضها البعض لقبول وجود المرأة في المشهد، لا سيما في الصفوف الأمامية، مع وجود حالة استياء وتذمر من هذا الملف واعتباره ثانويًا في هذه المرحلة، أو قبوله بالإكراه بدافع اعتبارات تتعلق بالتعاطي مع الضغوط الدولية والصورة العصرية التي يراد تسويقها عن سوريا الجديدة، دون اقتناع حقيقي بأحقية هذا الوجود أو بتلك الأدوار.

الانتقائية في قضايا النساء

وإلى جانب حضور المرأة في المشهد العام، تصدرت العديد من القضايا كملفات معقدة في الأشهر الأخيرة، وكان للتيار النسوي السبق في إثارتها ودفعها إلى الواجهة، وذلك بفضل ما يتمتع به من تنظيم راسخ، دعم متواصل وعلاقات واسعة استطاع التيار النسوي بناءها.

وبالنظر إلى القضايا التي استقطبت الاهتمام الأكبر، نجد أن قضايا الحريات الشخصية، كالحجاب، طريقة اللباس، وقضية الفصل بين الجنسين في المرافق العامة، استحوذت على جزء من الاهتمام، بيد أن التركيز الأكبر انصب على الانتهاكات التي طالت النساء، خاصة في أعقاب أحداث الساحل.

فقد حظيت الادعاءات بوجود حالات اختطاف ممنهجة للنساء بناءً على الهوية وانتمائهن لأقلية محددة، بالكثير من التعاطف والدعم، رغم عدم التحقق الدقيق من ملابساتها، لأن قضية اختطاف النساء ليست مستجدة على الساحة السورية، ولم تقتصر على النساء أو على الأقليات في منطقة الساحل فحسب، بل كانت ظاهرة ملحوظة شهدتها معظم المناطق السورية منذ سنوات؛ لأسباب مختلفة، سواء كانت سياسية، اقتصادية أو انتقامية. وهي ظاهرة بالغة الحساسية تستدعي تضافر الجهود والعمل المشترك على إنهائها بحذر ووعي، لا بالتهويل والتحريض، حرصًا على سلامة الضحايا بالدرجة الأولى.

وفي ذات الوقت، لم تلقَ الأخبار المتواترة منذ سنوات حول ظاهرة اختطاف الشابات الكرديات، بهدف التجنيد الإجباري، والعديد منهن قاصرات لم يبلغن السن القانونية، ذات القدر من الاهتمام، رغم أنها موثقة بتقارير حقوقية صادرة عن هيومن رايتس ووتش، وما زالت مستمرة حتى الآن.

كما لم تحظَ الأخبار المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي حول الانتهاكات التي طالت النساء اللاجئات إلى قاعدة حميميم بنفس القدر من التفاعل أو الجهد المبذول في التحقق، أو حتى التعاطف والتوثيق الذي يجري في السر والعلن.

وعلى الرغم من هذا التضامن النسوي تجاه قضايا المرأة، لم يكن هذا التضامن منصفًا وعادلاً بالقدر الكافي، فقد كان يتوقف على نوع الضحية ونوع الجاني، كما كانت حملات المساندة تقدم المبررات وتتغاضى عن الأخطاء في بعض الأحيان، بل وتتضامن مع المخطئ إذا كان من نفس التيّار والتوجه، في حين يتحول هذا التضامن النسوي إلى هجوم لاذع وإسقاط ممنهج تجاه شخصيات نسائية أخرى جاءت مخالفة للمعايير، فلم يكن مسموحًا لها بالخطأ ولم تُلتمس لها الأعذار.

إن المشهد النسوي السوري يفتقر إلى النضج الحقيقي في التعاطي مع حقوق المرأة، إذ إن هذا التضامن يتسم بالانتقائية وتحركه بوصلة الاهتمام الدولي، وهو يتحرك بقصد لفت الأنظار وتحويل قضايا المرأة إلى ملف للتدخل الخارجي ووسيلة للضغط السياسي، أكثر من كونه محاولة جادة للإصلاح والتحسين. في حين لا يُظهر تيار النساء المحافظ أي شكل تنظيمي أو تفاعلات رسمية مع قضايا النساء العامة إلا بشكل خجول، ويتحرك بردود فعل متأخرة تتفاعل مع الحدث ولا تصنعه.

لقد تحولت قضايا المرأة إلى منبر ومحرك للرأي العام، وهو ما أدركته بعض النساء وبدأن باستخدامه كأداة لجذب الشهرة والانتشار ولفت الأنظار، إذ لا يتطلب الأمر سوى ظهور سيدة باكية أو صارخة في بث مباشر، تقدم معلومات مغلوطة وتندب حظها وتتباكى من الظلم، في محاولة لكسب التعاطف الشعبي والتضامن حتى تتصدر الأخبار وتتحول قصتها إلى قضية رأي عام. والشواهد على ذلك كثيرة، وقد تطوّر الأمر لدى بعضهن ليعتبرن أن الصراخ، الوقاحة والإساءة دليل على التّحضر وعلى نموذج المشاركة الفعال والمطلوب من النساء في المجتمع.

ماذا نريد في التعاطي مع وجود المرأة وقضاياها؟

قد يتبدى هذا السؤال معقدًا وشائكًا بحد ذاته، لا سيما مع غياب الدراسات العلمية والمنهجية المستندة إلى أسس رصينة، ولكنني سأسمح لنفسي بالإجابة عن هذا السؤال، كوني أتبنى آراء شريحة واسعة من النساء السوريات، وأتابع مشكلاتهن وهمومهن منذ سنوات، وأدرك تمامًا حساسية بعض القضايا، والضغط المتزايد على الحكومة والمجتمع لإشراك المزيد منهن في عملية صنع القرار.

وربما أجد نفسي مضطرًا للتذكير بالمعلومة البديهية التي تؤكد أن النساء في سوريا يشكلن ما يقارب الـ 60% من إجمالي عدد السكان، وقد تحملن على عاتقهن مسؤوليات جسيمة، وبادرن للعمل في أصعب الظروف، وأثبتن جدارتهن في الكثير من المجالات العلمية، العملية، الإنسانية، وحتى السياسية والإعلامية.

وعلى هذا الأساس، تتطلع المرأة السورية إلى أن يثق المجتمع بكفاءتها وقدرتها على العمل، التأثير، الإنجاز والبناء دون وصاية أو تشكيك، ودون الدعوة إلى إقصائها أو إزاحتها إلى الصفوف الخلفية، بل على العكس، أن يمكّنوها ويدفعونها للواجهة، لإيمانه الراسخ بدورها وقدراتها، فهي شريكة النضال، التضحية، البذل، العطاء والصبر في أيام المحن والشدائد.

كما تتجلى الحاجة الماسة إلى معالجة بعض الجوانب الخفية في الثقافة المجتمعية التي تتحرج من ظهور المرأة في الفضاء العام لأسباب مختلفة، أو تشعر بالارتباك من هيئتها وأفكارها، أو تحاول التدخل في قضاياها الشخصية، كلباسها وطريقة حديثها، أو حتى تفرض القيود على وجودها بدعوى الحماية الزائدة.

فهذه الوصاية على سلوك النساء وتلك الحماية الواهية لم تعد منطقية في ظل الانفتاح الهائل الذي تشهده مجتمعاتنا، بل على العكس، قد تخلق ردة فعل عكسية ومتمردة تدفع النساء بعيدًا عن مجتمعاتهن نحو الطرف النقيض.

وإلى جانب ذلك، لا بد للمجتمع بكافة أطيافه أن يتكاتف ويجرم استباحة أعراض النساء وعائلاتهن في حال الاختلاف معهن أو ارتكابهن خطأ ما، فما يحدث في الخفاء والعلن مشين جدًا ويتعارض مع شرع الله تعالى، إذ تصل هذه الاستباحة إلى حد الكبيرة في بعض الأحيان، من قذف، سباب، تشهير وإيذاء يطال السيدة وعائلتها ومعارفها، أو يسمح البعض لنفسه بالتحرش بها في الفضاء الافتراضي وتهديدها، متناسين أن الله مطلع على السرائر والظواهر.

وأتوجه من هنا برسائل نصح وإرشاد للنساء اللواتي عقدن العزم على اقتحام حقول الألغام والمشاركة في بناء الأوطان، إذ لا يمكن للمرأة أن تمارس دورًا حقيقيًا مؤثرًا وتحدث تغييرًا إيجابيًا في المجتمع، وهي تقدم نفسها كنموذج يثير الخوف والنفور لدى الآخرين، ويهاجمهم، ويعاديهم، بل ويستقوي عليهم بالخارج.

كما أن هذا الخطاب المتعالي المتشنج، والأسلوب الفج المثقل بالمصطلحات الغربية والنسوية قد يتسبب في نتائج عكسية تنعكس سلبًا على القضية المطروحة، فتتبدد جهود كل من يسعى إلى إصلاح أوضاع النساء وحل مشكلاتهن، نتيجة لسوء تقديم الرسالة وبشاعة الأسلوب.

كما لا يمكن للمرأة أن تضطلع بدورها المنشود أيضًا دون وجود حاضنة مجتمعية تدعمها وتؤمن بآرائها، ولا من خلال عداوة مع الرجل، المجتمع، أعرافه وتقاليده كاملة، ولا بمحاولة تغييرها قسرًا وفقًا للكتالوج الغربي. ولهذا، فإن الانتقائية في اختيار القضايا التي تستحق النضال، الانفصال عن أولويات المجتمع واحتياجاته، الاعتماد على العلاقات والضغوط الخارجية للوصول إلى المناصب والحصول على التمويل، والتهديد، التلويح، والاستقواء بالخارج عند أي مشكلة أو خلاف، لا يجعل من أي سيدة مناضلة أو مدافعة عن حقوق المرأة، بل يحولها في بعض الأحيان إلى مدعية تسعى جاهدة وراء المناصب والشهرة، وتستغل قضايا المرأة لتحقيق مكاسب شخصية.

هناك طيف واسع من النساء السوريات يصبو إلى إعادة بناء علاقة صحية مع المجتمع، ينتقل فيها المجتمع من حالة الوصاية على المرأة إلى حالة الشراكة الحقيقية معها، والاعتراف بأحقيتها في الوجود الفعال والمؤثر في الفضاء العام، دون الحاجة إلى الكوتا، الضغط الخارجي أو حتى المحسوبيات، وإنما يصبح وجودها ضرورة حتمية نتيجة لوعي مجتمعي وإدراك ذاتي لأهمية مشاركتها.

كما تأمل هذه الشريحة في ضمان حقوق متساوية لجميع النساء بمختلف مشاربهن في المشاركة، التمثيل، الحصول على المناصب وفقًا للكفاءة والخبرات المكتسبة، والأحقية في ارتكاب بعض الأخطاء واكتساب الخبرة والتعلم منها دون الخوف من المجتمع أو من انتقامه الشديد، فمجتمعاتنا تكن كل التقدير والاحترام للمرأة، لدورها وتأثيرها، ونحن بحاجة إلى تجسيد هذا الاحترام في واقع عملي ملموس في كافة المجالات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة